علوم التاريخ والسياسة علوم التاريخ والسياسة
recent

آخر الأخبار

recent
recent
جاري التحميل ...
recent

الأهمية التاريخية والجيواستراتيجية لجزيرة قبرص بالنسبة للمنطقة العربية


الأهمية التاريخية والجيواستراتيجية لجزيرة قبرص بالنسبة للمنطقة العربية

د. سامر عبد الهادي علي

    كان الغرب -ولا يزال- يسعى لفرض سيطرته على المنطقة العربيّة بشكل خاص لما لهـذه المنطقة من أهمّيّة استراتيجيّة كبيرة، تخدم أهدافه وطموحاته وأطماعه التّوسّعيّة في مختلف مناطـق العالـم. لذلك سعى الاحتلال منذ القديم لاتّباع كل السّبل من أجل تحقيق هدفه هذا، كاحتلاله لأجزاء واسعة من الدّول العربيّة، ولمناطق أخرى تقع في طريقها إلى المنطقة. وكانت جزيرة قبرص من أهم المواقع التي احتلها الغرب، وسعى للحفاظ عليها بحوزته، لما لهذه الجزيرة من أهمّيّة إقليميّة كبيرة بالنّسبة لمنطقة الشّرق الأوسط، ومجاورتها للدّول العربيّة بشكل خاص. لذلك خضعت جزيـرة قبرص للاستعمار الغربي في مختلف مراحله قديماً وحديثاً، واتّخذ منها منطلقاً للهجوم على الدول العربيـة، في سبيل فرض مخططاته عليها وعلى المنطقة ككل، وأصبحت جزيرة قبرص قاعدة إستراتيجيّة مهمّة للغرب، ومنطقة تهديد دائم للعرب.
   برزت الحاجة الملحّة لجزيرة قبرص بالنّسبة للغرب بشكلٍ خاص بعد فتح قناة السويس، الممر المائي الأهم، خاصّةً لبريطانيا، كونها تقع على طريق مستعمراتها في الهند. لذلك عملت بريطانيا للحصول على هذه الجزيرة، وتحقق لها ذلك في مؤتمر برلين عام 1878م، حيث كانت قبله خاضعةً للدّولة العثمانيّة، وتخلّى عنها السّلطان عبد الحميد الثّاني مقابل دعم دولته في هذا المؤتمر. ومنذ ذلك التّاريخ بدأت المشكلة القبرصيّة، وبدأ تحويل الجزيـرة إلى قاعـدة إستراتيجيّة مهمّة سياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً بالنّسبـة لبريطانيا وحلفائها، وتبلور التّهديد الفعلي للدّول العربيّة انطلاقاً من الجزيرة المجاورة لها، سواء قبل أو بعد أن يصل الغرب لمرحلة استعماره للوطن العربي ككل.
   تحتل جزيرة قبرص ثالث أكبر جزيرة في البحر المتوسط (بعد صقلية وسردينيا)، موقعاً استراتيجيّاً مهمّاً في الحوض الشّرقي للبحر الأبيض المتوسّط. تبلغ مساحتها حوالي (9251 كم2). جاء اسم جزيرة قبرص من كلمة (جفرو) الفينيقية، وتعني المخلب أو الظّفر، وتدعى باللغة اليونانيّة (كيبرو)، وتُعرف بـ (قبرص) باللغتين التّركيّة والعربيّة.
   تقع قبرص في المنطقة الشّمالية الشّرقية من حوض البحر الأبيض المتوسّط، في مكان التقاء القارّات الثّلاث، آسيا وإفريقيا وأوروبا. هذا الموقع أعطى الجزيرة أهمّيّة إستراتيجيّة كبيرة، كان له دور أساسي فيما شهدته الجزيرة طوال تاريخها سياسيّاً وعسكريّاً، حيث كانت على الدّوام عُرضةً للغزو من قبل مختلف الإمبراطوريّات والدّول التي مرّت عبر التّاريخ (الفرعونيّة، الحثّيّة، الأكّادية، الفينيقيّة، الآشوريّة الفارسيّة، القرطاجيّة، الرّومانيّة، البيزنطيّة، الفتح الإسلامي، الفرنجيّة، الفينيسيّة، الفتح العثماني، البريطانيّة).
   تبعد الجزيرة عن سواحل تركيّا نحو 70 كم، وعن سورية 100 كم، ولبنان 162 كم، وفلسطين 267 كم، ومصر 418 كم، فيما تبعد عن اليونان مسافة 965 كم. ويتكوّن سكّان الجزيرة من جنسيّتين رئيستيْن هما اليونان والأتراك، وكان ذلك حينما وفد المهاجرون من اليونان وتركيّا عبر العصور إلى الجزيرة، ولـم يكن بين الجنسيّتين أيّ قاسم مشترك باستثناء العيش على أرض جزيـرة واحدة، لذلك بقي لكل منهما قوميّتها ودينها ولغتها وتراثها وعاداتها وتربيتها، ولم ترتق العلاقات بينهما إلى حدّ الامتزاج لتكوين شعب واحد.
   تتألف الجزيرة حاليّاً من دولتين مستقلّتين هما جمهوريّة قبرص اليونانيّة جنوب الجزيرة، وجمهوريّة قبرص التّركيّة شمال الجزيرة، التي تأسّست أواخر عام 1983م إثر فشل المفاوضات بين القوميتين التّركية واليونانيّة في توحيد الجزيرة. وتتّخذ الدّولتان عاصمةً لها في المنطقة التي تسيطر عليها من مدينة نيقوسيا.
   يوجـد في الشّطر الجنوبي من قبـرص سفارات للعديد من الدّول العربيّة منها: سورية ولبنان وفلسطيـن ومصر وليبيا، إضافةً إلى سفارات للعديـد من الـدّول الإسلاميّة غير العربيّـة، والدّول الأجنبيّة، أمّا في الشّطر الشّمالي من قبرص فلا يوجد سوى سفارة واحـدة هي السّفارة التّركيّـة. 
   كان لقبرص خلال تاريخها الطّويل دوراً كبيراً في الأحداث التي شهدتها المنطقة العربيّة، خاصّةً دول الجوار منها، حيث شكّلت قاعـدة استعماريّة لكل الدّول التي حاولت السّيطرة على المنطقة العربيّة حتى تاريخنا المعاصر، خاصّةً من جانب بريطانيا التي كانت تسيطر على الجزيرة، وانطلقت منها في شـنّ حروبها ضدّ العرب، كالعدوان الثّلاثي على مصر عام 1956م، وعدوان حزيران عام 1967م، وأسهمت في حرب تشرين عام 1973م إلى جانب "إسرائيل".
   أقامت بريطانيا في قبرص عـدّة قواعد عسكريّة أهمّها قاعدتي (أكروتيري) و (ديكيليا)، بالإضافة إلى قاعـدة (أبسكوبي)، وما تزال هـذه القـواعد تحت السّيطرة البريطانيّة منذ عام1960م وحتى الآن، وتشمل حوالي 3% من مساحة قبرص.
   ونتيجةً لموقعها المهم تسعى "إسرائيل" جاهدةً للتّوغّل في الجزيرة، واستخدامها كطرف استراتيجي في صراعها مع الدّول العربيّـة، وخاصّةً أنّ قبـرص كانت منطقة عبور لليهود الذين احتلوا أرض فلسطين واستوطنوا فيها. 
   لذلك نجد مدى أهمية الجزيرة، وموقعها الاستراتيجي، ودورها في الأحداث الدّوليّة، وانعكاسات ذلك على الدّول العربيّة، خاصّةً المجاورة لها. وهذا ما ظهر واضحاً خلال الاعتداءات التي قامت بها بريطانية مع حلفائها على دول الجوار العربي منذ نهاية الحرب العالميّة الثّانية 1945م، وحتى الاجتياح التّركي لقبرص عام 1974م. 

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

علوم التاريخ والسياسة

2016